الأحد، يوليو 10، 2011

تقويم القذافى

21:41:00 2011 السبت 9 يوليو


سناء البيسى


كانت المرة الأولى والأخيرة التى ذهبت فيها إلى ليبيا القذافى عندما وجهت إلينا الدعوة ضمن باقة من الكتاب والصحفيين لحضور حفل التقويم الجديد الذى لم ننتبه فى البداية إلى كنهه أو غايته.
وظنناه احتفالية لتقويم المعوج على أرض المختار، وفوجئنا في قاعة الاحتفالات الكبرى بمحدثنا معمر القذافى نفسه يعلن أنه بصدد قيامه باتخاذ تاريخ مختلف عن العالم كله، حيث غيّر التاريخ الإسلامى وجعله يبتدئ بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بدلا من هجرته، مبررا ذلك بقوله فى خطبته الطويلة المرهقة التى استمرت على المسرح ساعات لنعود إلى الفندق لنراها من جديد تذاع علينا ثانية من خلال شاشة التليفزيون حتى المساء والتى قال فيها: «لكل إنسان حدثين رئيسيين هما ميلاده ووفاته، وفيما عدا ذلك من تواريخ فكلها لا ترتقى لهذين الحدثين.. ولأن المسيحيين قد أرّخوا تقويمهم بميلاد المسيح فينبغى علينا أن نخالفهم فنؤرخ بوفاة الرسول وليس بتاريخ هجرته».. وفى دفاعه عن وجهة نظره «الحولاء» أضاف القذافى متسائلا ليرد على نفسه من خلال خطابه: «تعالوا نتساءل عمن أرّخ التقويم الإسلامى بالهجرة؟! هل هناك نص من القرآن فى ذلك؟!.. إنه مجرد اجتهاد من عمر بن الخطاب.. وعمر حاكم مسلم، وأنا حاكم مسلم، وله اجتهاده ولى اجتهادى، ولسوف تكشف الأيام خلال العشر سنوات القادمة أنه لن يكون هناك إنسان فى العالم الإسلامى كله يأخذ بالتاريخ الهجرى الذى تستخدمونه فسوف يتبع جميع المسلمين في أنحاء الأرض تقويم القذافى» الذى يسمى يناير «النار»، وفبراير «النوار»، ومارس «الربيع»، وابريل «الطير»، ومايو «الماء»، ويونيو «الصيف» ويوليو «ناصر»، وأغسطس «هانيبال» وسبتمبر «الفاتح» واكتوبر «التمور» ونوفمبر «الحرث» وديسمبر «الكانون».

وبعودتنا للفندق وجدناه.. الكتاب الأخضر الضخم يطل على كل منا من أبرز مكان فى غرفته بهدف أن نعود به إلى مصرنا الشرقانة للمعرفة لنستقى منه الحكمة والموعظة الحسنة وكيف فسّر فيه صاحبه الماء بالماء حيث قال: «سمى المصريون هكذا لأنهم من مصر، كذلك لبنان، والسودان، وتركيا، وإيران، إذن ليس من الغريب أن يسمى الليبيون ليبيين لأن الليبى مولود فى ليبيا».. ويضم الكتاب ــ الذى بحثت بعناية فائقة عن مكان لإخفائه فى موطنه الأصلى كى لا أضطر لحمله مع ثقله عبر المطارات فوجدت له مخبئا مثاليا خلف الدولاب، الذى حتما لن يُقدر له الزحزحة اللهم إلا مع كل تجديد لأثاث الفندق عامة، ولم تكن مصادفة عندما همس غالبية أعضاء الوفد المسافر لبعضهم بعد وصولهم إلى مطار القاهرة بأنهم قد نسوا الكتاب خلف الدولاب! ــ الذى قام القذافى بتأليفه عام 1975 أى بعد انقلابه على النظام الملكى بسبع سنوات ليقدم فيه عرضا لأفكاره وتعليقاته حول أنظمة الحكم والتجارب الإنسانية كالاشتراكية والديمقراطية والحرية مع العديد من الاقتراحات حول القضايا التى تمر بها منطقة الشرق الأوسط، حيث كانت أبرزها إنشاء دولة فيدرالية تضم اليهود والفلسطينيين اسمها «اسراطين»، وأتى تفسيره فى كتابه الأخضر للديمقراطية بأنها «ديمومة الكراسى» وأنها تعنى جلوس الحكماء على الكراسى، ويضم الكتاب ما سماه «النظرية العالمية الثالثة التى تأتى بعد الشيوعية والرأسمالية اللتين وصفهما القذافي بأنهما أشهرتا إفلاسهما، وأنها هى طريق المستقبل لا للعرب والمسلمين فحسب، بل للعالم الثالث كله، وللبشرية جمعاء، وكتب فيه يقول: «لقد أدرك الشيوعيون أن الماركسية مقضى عليها بالفناء، وأنها ستنتهى على يد نظريتى وستثبت الأيام لكم ذلك».
و..كان معمر القذافي قد نزل ضيفا على الأهرام فى صرحه الجديد وطاف به الأستاذ محمد حسنين هيكل أرجاء المبني، وتلك عادته مع كل ضيف مهم مثلما تجول بيننا يوما بالرئيس جمال عبدالناصر يصحبه أنور السادات نائبا، وبالملك حسين، وأذكر يومها سؤال القذافى الذى أوقعنى فى حرج بالغ عندما وجه لى استفسارا أمام الكاميرات عن مرتبى فلم تحضرنى سوى الإجابة بـ«كويس الحمد لله».. وجلسنا في إحدى قاعات الأهرام لنسمع محاضرته حول الفوارق الجوهرية بين تركيبة المرأة والرجل ممثلا الرجل بدائرة كبيرة بداخلها نقطة تافهة تمثل المرأة، وكنت حريصة على الإنصات للثائر الشاب بعد مابلغنا من أصداء ثمار ثورته التي قادها في الفاتح من سبتمبر 1969 والمستوحاة من ثورة يوليو 1952، التى استهدفت محو الأمية، وإرساء التعليم المجانى، وتحسين مستوى المعيشة، وبلوغ النساء الليبيات المناصب المهمة لتغدو بعضهن وزيرات وسفيرات وطيارات وقاضيات وطبيبات.. و.. لو استمر القذافي فى مسيرة الإصلاح حيث كان المجتمع الليبى يبدو أكثر ديمقراطية من الكثير من دول الخليج العربي خلال السبعينيات، ولو لم يقم القذافي بالإجهاز على معارضيه وسجنهم ونفيهم وتعيينه الأقارب والحلفاء في القوات الأمنية لما اندلعت الثورة العنيفة فى بلاده، لكنه أهدر فرصة الإصلاح وفجر الوضع بإطلاق النار على المحتجين فأجج الغضب الليبى لينفلت الليبيون من عقال سلطته.. معمر الذى رأيناه فى الأهرام يومها كان مختلفا تماما عن صورته الحالية التى أصبح فيها كما الوحش الكاسر الذى يأبى إلا أن يبقى مطبقا بأنيابه الحادة على شعبه داخل البلاد، ومشرعا أظافره خارجها بتهور غير مسبوق من حادث الطائرة الفرنسية «لوتا» فى إفريقيا، إلى الطائرة الأمريكية «بان أمريكان» فى لوكيربى، إلى تفجير مقهى «لابل» فى برلين، إلي تأييد إرهابيين من أيرلندا، إلى طرد الفلسطينيين من ليبيا ليكونوا قرب بلادهم «كما قال»..الخ..الخ... وليست هناك شهادة أبلغ على ما كان عليه القذافى يوما، وما صار عليه الآن، من قول زميله الرائد عبدالمنعم الهونى ــ الذى شاركه مجلس قيادة الثورة الليبية عام 1963 ــ من أن القذافى كان أيامها: «شديد التواضع والبساطة ويكره البهرجة في الملابس»، والآن وقد خرج الهونى من إسار القذافى المستبد ليستقيل من منصبه كمندوب ليبيا الدائم فى الأمم المتحدة ليصبح ممثلا للمجلس الوطنى الانتقالى للثوار يقول: «لا مكان للقذافى في مستقبل ليبيا، ولن نرضى بعد الآن بوجوده وعليه الخروج.. وفورا».. وكان ذلك ردا على القذافى الذى طالب فى مقابل تخليه عن السلطة نهائيا ضمانات دو لية راغبا فى البقاء في ليبيا وبالذات فى «سرت» مسقط رأسه، باعتباره رمزا تاريخيا، وأنه لن ينوى ممارسة أى دور سياسى أو تنفيذى فى ترتيبات المرحلة المقبلة إذ سيعهد إلى ابنه الثانى سيف الإسلام بهذه المهمة!
ولأنه معمر الذى لن ينسى العالم خطابه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 2009 عندما قام بإلقاء ميثاق الأمم المتحدة من فوق المنصة بطول يده أمام العالم بشكل مسرحى، وفوجئ بأنه لم يزلزل بفعلته أركان القاعة الدولية كما ارتجى، وإنما كان رد الفعل أن تعالت ضحكات وقهقهات الزعماء والدبلوماسيين العالمين وكأنهم قد شاهدوا عرضا هزليا صاخبا.. وخلال القمة العربية عام 2009 فى الدوحة منح القذافي لنفسه عدة ألقاب، منها عميد الحكام العرب، وملك ملوك إفريقيا، وإمام المسلمين، وكان إصراره علي أن أوباما عربى واسمه «أبو عمامة».. وللعالم والعرب خاصة ذكريات كان الزعيم الليبى فيها يتخذ من جلسات قمم الجامعة العربية منصة لنقد السياسات العربية ومنها تجاوزه على خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القمة التى انعقدت في شرم الشيخ قبل الغزو الأمريكى للعراق، وعلى أثرها انفض الاجتماع العربى، وقد أسكته الملك حينها ومنعه من الاسترسال في الهجوم على السعودية والافتراء عليها، وخاطبه بعبارته الشهيرة: «الكذب إمامك.. والقبر قدامك»... معمر الذى قد قسم شعبه إلى ثلاثة أقسام، أحدها شريد خارج الحدود، وثانيها قعيد داخل الزنازين، وثالثها مستنفر في مهب التهديد والوعيد. ولأنه يخاف فيظلم، ثم يظلم فيخاف، ثم يخاف فيظلم فيلجأ إلى مظلة الأمان تحت جناح العفاريت والجان عن طريق جيش من السحرة والمنجمين يقومون من أجله بالشبشبة وحرق البخور كى يحعلوا من بنية وبين أعدائه وحساده سدا ويبعدوا الثوار الملاعين عن مقره الحصين في سور العزيزية.
ولأنه اشترى العالم بثروات بلاده، وحرك العالم لإيقاف طغيانه، وجلب من «الأمازونيات» 400 حارسة لحراسته يتخرجن في أكاديمية الشرطة النسائية في طرابلس ويطلق عليهن جميعا اسم ابنته عائشة المقربة إليه ـ التى تطلق عليها الصحافة الأجنبية لقب كلوديا شيفر الصحراء ـ وقد أثبتت الحارسات المتجملات بأحدث المستحضرات جدارتهن بثقته خاصة عندما ألقت رئيسة الفرقة الخاصة بنفسها عليه للحيلولة دون إصابته بالرصاص في أحد الكمائن التى تعرض لها موكبه في طرابلس، فحزن حزنا شديدا لمقتلها، وغالبا ما يثير هذا الحرس المشكلات عند مرافقته لحضور اجتماعات القمم العالمية كما حدث في عام 2006 عند اشتراكه بعدد 200 حارسة خصوصية فى قمة إفريقيا وأمريكا اللاتينية فى العاصمة النيجيرية «أبوجا» حيث كانت كل حارسة بمثابة ثكنة عسكرية فأوقفهن حرس الحدود ليستشيط القذافي غضبا ناويا أن يسير معهن فى مظاهرة للعاصمة سيرا على الأقدام لمسافة 40 كيلومترا، وتدخل الرئيس النيجيرى لينهى الأزمة بالموافقة على أن تحتفظ كل حارسة بثمانية مسدسات فقط!
معمر القذافى.. تلك الشخصية الجدلية كحاكم ثرى يعيش داخل خيمة يتنقل بها إلى بلاد العالم تصحبه ناقته يشرب من ضرعها اللبن طازجا مرتديا أزياء فولكلورية كاريكاتورية معتبرا أن صاحب «روميو وجولييت» كاتبا عربيا كان يدعى «الشيخ زبير» قبل أن يدمج اسمه ليصبح فى الإنجليزية شكسبير! .. الفقيه المجتهد الذى أمر بحذف كلمة «قل» من سياق الآيات القرآنية مثل «قل أعوذ برب الفلق» وذلك لأن الله كان يخاطب فيها رسوله، والرسول قد مات، فلا داعى لاستخدام تلك الـ«قل» ولنقل «الله أحد»، «أعوذ برب الفلق».. قارون الذى بلغت ثروته 131 مليار دولار أى ستة أضعاف ميزانية ليبيا.. الديكتاتور الظاهرة الذى ألهم الكتاب والأدباء وحتى الموسيقيين باستثمار شخصيته المتفردة فى أعمالهم فقام على سبيل المثال الممثل الإنجليزى الشهير «رامون تيكار» بتقمص شخصيته فى أوبريت بعنوان «القذافي أسطورة حية» تم عرضه على مسرح الأوبرا الوطنية الإنجليزية، حيث صاحبت العرض على موسيقى الروك فرقة «ايجن داب فاونديشن»، وقد أدى نجوم الغرب عدة أغان تعتمد على خطب القذافى المتعطشة للدماء كان أشهرها أغنية «زنقة زنقة» فيما يهز القذافى فيها قبضة يده مهددا، وتتوالى فى الأسواق الأعمال الأدبية التى تتناول شخصية وعدوانية القذافى ومنها رواية «فى بلد الرجال» للروائى الليبى هشام مطر المقيم فى لندن منذ عام 1990 والتى كتبها بالإنجليزية وترجمت إلى أكثر من عشرين لغة وتم ترشيحها هذا العام للفوز بجائزة «مابنوكر» لأهم رواية فى بريطانيا، ويستقطب الأدباء الليبيون حاليا اهتماما دوليا، وتجدر الإشارة إلى أن مطر وثلاثة مؤلفين ليبيين يعيشون الآن فى البحرين وهم غازى قبلاوى، وجمعة بوكليب الذى اعتقل لمدة عشر سنوات في نهاية السبعينيات.. ولعل كتاب «الوزير المرافق» للدكتور غازى القصيبى الوزير السعودى الراحل قد لخص طبيعة شخصية القذافى فى تعامله الدولى بقوله «لا يكاد العقيد يعترف إلا بنوعين من أنواع التعامل الدولى: الوحدة الفورية، أو الحرب المسلحة»، وكان القصيبى قد رافق القذافى فى مناسبات مختلفة أثناء عمله الوزارى ليدون تجاربه الشخصية معه والتى تكشف التناقضات والتقلبات التى يعيشها العقيد. ذكر القصيبى «إن شخصية العقيد لا تعرف الاعتدال، فهو إما فى حالة عشق عنيف أو كره صاخب، مع مصر، مع السودان، مع مالطة، مع تشاد، مع فرنسا، مع إيطاليا، باختصار مع الجميع» وأشار إلى أن علاقة العقيد مع السعودية غريبة ومعقدة، فكلما ساءت جاء بنفسه أو أرسل وفدا لتحسينها، وكلما وصلت إلى درجة معقولة عاد ونسفها بنفسه لتعود إلى حالة الفتور من جديد.
وبعد إعلان «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى» وتشكيل اللجان الشعبية، ومنح السلطة للمؤتمرات، وتحويل الوزارات إلي أمانات، تخلّى العقيد عن جميع ألقابه مكتفيا باسم «قائد الثورة» الأمر الذى جعله فى حِل من مراسم البروتوكول، حيث لم يعد ملزما باستقبال أحد أو توديعه، أو حتى لقائه، فى الوقت الذى كان لديه عقدة من الألقاب فكان ينادى «الملك خالد» بدون إضافة «جلالة»، كما أثار ثائرة الملك الحسن الثانى ملك المغرب الراحل في أول لقاء يجمعهما فى قمة عربية حين ناداه «يا أخ حسين».. ويذكر القصيبى أن تصرفات العقيد المتطرفة لم تكن على مستوى الدول فقط، بل حتى مع زملائه من أعضاء مجلس القيادة، وفي إحدى الرحلات التى أعدها للوفد السعودى برئاسة الملك خالد، حيث نقل الوفد بأوتوبيس سار فى دروب الصحراء لأكثر من ثلاث ساعات ليشاهدوا فى النهاية مجرى مائى صغير أشار إليه القذافى بفخر قائلا: إنه النهر العظيم.. وكان قد بدأ الرحلة بالعديد من الأوامر المتلاحقة للرائد عبدالسلام جلود الرجل الثانى فى ليبيا ورفيقه فى السلاح، وكان جلود يتلقى الأوامر ذات اللهجة الجارحة لتنفيذها على الفور مثل «عبدالسلام دير قهوة وشاهى»، «عبدالسلام، أخبر الشرطة ألا يسرعوا»، «عبدالسلام ما قلت لك دير قهوة وشاهى».. «عبدالسلام قلت للشرطة.. عبدالسلام ما قلت لك دير على الكل».
وعلي الرغم من أن العقيد كان يعلن أن ثورته التى قادها والثورة الإيرانية أختان شقيقتان، وكان خلال الحرب الإيرانية العراقية يزود إيران بكميات هائلة من المعدات العسكرية لكنه كان يقول عن الخمينى «الفرس كلهم مجوس شعوبيون ومجوس، كانوا ومازالوا والخمينى لا يختلف عنهم»، وفى الوقت الذى كانت فيه علاقة ليبيا بالسعودية تمر بحالة من الفتور عام 1979 طار إليها لفتح صفحة جديدة مصطحبا معه زوجته وعددا من مرافقاتها اللاتى كانت إحداهن ترتدى ثوبا قصيرا بعض الشىء وتصادف مرور «جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» مما أدى إلى الشجار الذى وصل إلى حد استعمال الأيدى، وغضب القذافى وأصرّ على أن تستعد طائرته للإقلاع الفورى، وقام الملك خالد والأمير فهد بتقديم اعتذارهما للضيف لكنه لم يقبله بحال من الأحوال، فقال له الملك خالد إن الشامت الأكبر من فشل الزيارة سيكون أنور السادات، وهنا فقط اقتنع العقيد بالبقاء في الرياض.
وتقرأ فرنسا الآن أحدث أعمال الكاتب اللبنانى العالمى «ألكسندر نجار» فى مؤلف بعنوان «تشريح الطاغية معمر القذافي» الذى كتبه بالفرنسية يروى فيه قصة صعود القذافي من الطفولة إلى الزعامة مع تحليل شخصيته كطاغية «لا يعرف الحدود فنزواته قوانين، وأهواؤه مشاريع وطنية، ورذائله للمصلحة العامة».. وبين صفحات كتاب ألكسندر لتشريح الطاغية نتعرف علي الابن الأصغر لعائلة بدوية مؤلفة من أم ذات أصول يهودية اسمها «عائشة» لها شقيقة تعيش فى إسرائيل وأب يرعى الأغنام والإبل يدعى «محمد عبدالسلام حامد» المعروف بـ«أبومنير»، وقد شارك هذا الأخير فى فيلم وثائقى عن «حياة العقيد» قام به الصحفى الفرنسى «إيريك رولو» تحدث فيه الوالد الذى تجاوز المائة عن ابنه بقوله «مازال ولدى يعشق حياة البدو، وكلما أتى لزيارتنا انتعش، وذهب لينام بعمق واسترخاء على نفس فراشه، إنه مخلص للمكان الذى ولد فيه (سِرْت)».. وحول صفات الابن قال الوالد الكهل: «كان ولدى فى طفولته وصباه متحفظا قليل الكلام»، وفي فترة من الفترات انتشرت شائعة غريبة جعلت من معمر القذافى ابنا للطيار الإيطالى الكورسيكى «ألبير بريسيوزى» الذى قتل في روسيا عام 1943 بعد فترة عاشها فى صحراء ليبيا، وحول أهمية هذه النقطة الحرجة يقول «نجار» إنه علي رغم الشبه الكبير بين الطيار الإيطالى في شبابه والملازم الليبى الشاب معمر، فإن هذه الرواية بقيت تنتشر كخدعة أو نكتة تتناقلها الألسن على رغم من اهتمام الصحافة الأجنبية بالأمر ومتابعته، وهذا ما دفع بالكاتب اللبنانى إلى كتابة الفصل الأول من كتابه الذى يقوم فيه بتشريح طفولة القذافى تحت عنوان «بدوى أم كورسيكى؟!». وينقل الكسندر نجار قول القذافى حول طفولته «كنت أرعى الماشية، وأزرع وأحصد.. كنا دائما تحت القصف. قصف الحرب العالمية الثانية. كانت الدول تتعارك على أرضنا ونحن لا نعرف السبب. المناجم تُفجر والقنابل تلقى فوقنا.. وهذه هى الذكريات الأولى التى رسخت فى ذاكرتى طفلا»..
ويمثل «الحكام أصحاب الأقلام» ظاهرة فى عالم الرؤساء والملوك والزعماء الذين طرحوا أفكارهم بين ضفاف الكتب، فهتلر كمثال كتب «كفاحى»، وعبدالناصر «فلسفة الثورة» والسادات «البحث عن الذات»..الخ.. وكان لمعمر القذافي العديد من المؤلفات منها مجموعة قصصه القصيرة التى من بينها «الفرار إلى جهنم» وكأنه فيها كان يقرأ الغد وما سوف يلقاه، وغاية أمانيه فىأن يختم حياته فى «سرت» مسقط رأسه حيث الطريق الوحيد للخلاص، وسرت هى البادية التى كانوا يطلقون عليها اسم جهنم بسبب مناخها شديد الحرارة.. كتب وكأن أفراد شعبه هم الطغاة وليس هو:
«ما أقسى البشر عندما يطغون جماعيا!! يا له من سيل عرم لا يرحم من أمامه!! فلا يسمع صراخه ولا يمد له يده عندما يستجديه وهو يستغيث.. بل يدفعه أمامه في غير اكتراث! طغيان الجموع أشد صنوف الطغيان، فمن يقف أمام التيار الجارف؟! والقوةالعمياء!! حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها، وزغردت وغنّت بعد التأوه والعناء.. كم أخشاها وأتوجس منها.. كانت عطوفة فى لحظة السرور فحملت أبناءها على أعناقها!! حملت هانيبال، وباركليز، وسافونا رولا، وداونتون، وروبسبير، وموسولينى، ونيكسون.. وكم كانت قاسية فى لحظة الغضب فتآمرت على هانيبال وجرّعته السم، وأحرقت سافونارولا على السفود، وقدمت بطلها داونتون للمقصلة، وحطمت فكى روبسبير خطيبها المحبوب، وجرجرت جثة موسولينى في الشوارع، وتفّت على وجه نيكسون وهو يغادر البيت الأبيض بعدما أدخلته فيه وهى تصفق.. ياللهول!! من يناقش عقلا جماعيا غير مجسد فى أى فرد؟!.. من يمسك يد الملايين؟!.. من يسمع مليون كلمة من مليون فم فى وقت واحد؟!.. من فى هذا الطغيان الشامل يتفاهم مع من؟!.. ومن يلوم من؟!!
اتركونى وهمومى.. لماذا لا تعطوننى جواز سفر؟!.. ولكن ماذا أعمل به فأنا ممنوع حتى من الخروج لغرض السياحة أو العلاج، لذا قررت أن أفر بنفسى إلى جهنم كى أنجو بنفسى فأنفاسكم تضايقنى، وتقتحم علىّ خلوتى، وتغتصب ذاتى، وترغب بنهم وشراهة شرسة في عصرى وشرب عصارتى، ولعق عرقى، ورشف أنفاسى.. أقول لكم إننى فى طريقى إلي جهنم.. وأتوقف لأسلك أقصر طريق وأختار أقربها إلى قلبها.. تقزمت الجبال ويبست الأشجار ولم يبق بارزا إلا جهنم، وأبرز ما فيها قلبها.. اتجهت إليه دون صعوبة تذكر.. تركت لكم خوذتى الذهبية من يلبسها يصبح سلطانا في التو وتنحنى أمامه الملوك والرؤساء.. تركت لكم خاتم شبيك لبيك الذى تريده منه يأتيك.. حتى السراب يكون تحت الإشارة!!»..
وإذا ما كانت عقيدة الطاغية أن الحصار القديم عليه فى التسعينيات قد فشل، وأنه استطاع شراء الضمائر بملايينه، وأن الحرب الدولية فى أفغانستان اليوم أيضا عاجزة عن النصر، وأن المزاج الشعبى الأمريكى أصبح ضد أى مشاركة عسكرية مهما كانت الأسباب، كل هذا صحيح ووارد ويؤخذ فى الاعتبار، لكنه نسى أن المارد الليبى قد استيقظ، وأنه إن قَبِل السلف بالهوان.. فقد أتى الخلف شاهرا راية عدم الاستسلام، وأن سفينة نظامه قد ثُقبت، وأن هيبة حكمه قد غرقت، وأن حائط عزيزيته قد تداعى، وأن معركة طرابلس التى بلغ أبوابها الثوار قادمة مع رمضان، لتكتب الخاتمة بانتصار الثوار.. و..تبعا للتقويم الهجرى الذى لا يعترف به القذافى فإن أيام الطغيان فى ليبيا قد باتت معدودة.. وليرحل معمر القذافى قبل أن يهل هلال رمضان إلى مسقط رأسه فى «سرت».. إلى «جهنم».. وبئس المصير!
.
المصد: إيلاف، http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2011/7/667902.html?entry=homepagenewspapers

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق