الأربعاء، يوليو 06، 2011

ليبيا ما بعد القذافي: الاستعداد للأسوأ


د. عمر عاشور أستاذ محاضر في العلوم السياسة والدراسات الاستراتيجية، ومدير برنامج الدراسات العليا في سياسة الشرق الأوسط لدى مركز الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر البريطانية.

هذا المقال سيفترض قرب سقوط نظام العقيد معمر القذافي - المستولي على ليبيا منذ أكثر من أربعين عاما، وبداية مرحلة التخلص من الحكم الديكتاتوري. المرحلة المقبلة ستحتاج الى عملية بناء مؤسسات ودستور وقوانين ومجتمع مدني مستقل عن القبيلة والحكومة، وهي عملية في غاية التعقيد، يمكن أن تطول أو تقصر بحسب نضج الوعي السياسي للنخبة والإرادة الجماعية للخروج من الفترة الإنتقالية وتغليب الصالح العام على المصالح الخاصة ـ فردية ً كانت أو فئوية أو قبلية أو غيرها، وأخيراً توافق مصالح النخبة السياسية والعسكرية حول المضي قدماً نحو بناء دولة مؤسسات ديمقراطية حديثة. وفي هذا الإطار سيقدم المقال أربعة سيناريوهات محتملة يمكن أن تؤثر سلباً على احتمالات التحول الديمقراطي في ليبيا ما بعد القذافي. هذه السيناريوهات هي:
1 الحرب الأهلية.
2الحكم العسكري.
3 'المنطقة الرمادية'.
4 التقسيم.


السيناريو الأول:
الحرب الأهلية؟ وهو أسوأ السيناريوهات على الإطلاق . فأي نظام قمعي سيهدد بأن البديل الوحيد عنه هو الفوضى أو العنف، وهذ السيناريو يحقق ذاك التهديد. فأنظمة الحكم السلطوية لا يمكنها أن تفوز في انتخابات نزيهة أو استفتاء شعبي حر، ولكن يمكنها التغلب على إرادات شعوبها عبر العنف السياسي لإستيلائها على مؤسسات الدولة ـ ومنها الجيش والأجهزة الأمنية والموارد السيادية. ولذلك يميل الميزان العسكري عادة لصالح من يستولي على الدولة. ولكن جَرّ الموقف عمداً من مظاهرات سلمية مطالبة بالتغيير والإصلاح إلى مواجهة مسلحة - كما فعل العقيد القذافي في ليبيا ليبقى في الحكم - له نتائج سلبية أخرى قد تتبلور بعد سقوطه. فمثلاً تشير احصائية في مجلة الأمن الدولي ـ التي تصدر من جامعة هارفارد ـ أنه في حالة نجاح أية مقاومة مسلحة في إسقاط نظام سلطوي يصير احتمال تدهور الموقف نحو حرب أهلية هو 43' (أي أنه ما يقرب من نصف الحالات التي سقطت فيها أنظمة سلطوية بالسلاح تحول الوضع السياسي الى حربٍ أهلية بعد النجاح). ينخفض هذا الاحتمال إلى 28' اذا كان التغيير عبر مقاومة سلمية مدنية. وتشير دراسة أخرى أن احتمالات التحول الديمقراطي بعد اسقاط نظام سلطوي عبر مقاومة عسكرية مسلحة هي 3 ' فقط، بينما تزيد هذه النسبة إلى 51' - أي أغلبيية الحالات على الإطلاق - لو كانت المقاومة مدنية سلمية. خلصت الدراسة الأخيرة لتلك الِنسَبْ بعد دراسة 323 حالة مقاومة مسلحة وسلمية لأنظمة استبدادية واستعمارية فيما بين عامي 1900 و2006. وليبيا بالطبع قد تكون ضمن الـ3' الناجية من ويلات الحرب الأهلية.
وليحدث ذلك يجب الاستعداد لمعالجة عدة أمور، أهمها حدة الاستقطاب القبلي والجهوي، وكذلك احتواء المنافسة بين المجلس الانتقالي والمجلس العسكري، وفيما بين كبار القادة العسكريين. فحدة الاستقطاب تمثلت في عدة حالات ـ ليست فقط بين القذاذفة وقبائل الشرق كالعبيدات، وإنما فيما بين قبائل الغرب أنفسهم. فالشهر الماضي مثلاً اشتعلت الاشتباكات بين المقاومة المتمركزة في مدينة الزنتان وسكان بلدة الريانية ـ وتبعد 15 كيلومترا فقط عن المدينة ـ وأدى ذلك إلى سقوط 6 قتلى على الأقل، وهذا نموذج مصغر لما يحدث في غرب ليبيا حين يختلف بالجيران ـ بين مؤيد للعقيد ومعارض له . وبالطبع فإن وهج الثارات لا يخبو بسهولة في مجتمع قبلي مسلح به ما يربو على المائة والعشرين قبيلة، ثلاثون منها ـ على الأقل - ذات عددٍ معتبرٍ ونفوذٍ ملموس. وخلاصة الأمر أن الولاءات القَبَلية ستستمر في لعب دور محوري في الأيام المقبلة، وأن اندلاع صراع قبلي مسلح في فترة ما بعد القذافي أمر وارد، إلا أن احتوائه ممكن كما تشير الدلائل الواردة من شرق ليبيا التي تحررت الآن من سطوة القذافي منذ شباط/فبراير الماضي. فالخلافات بين قبائل شرق ليبيا موجودة بطبيعة الحال، ورغم ذلك فإن مستوى التنظيم والتنسيق بين القبائل التي قادت الثورة كان مبهراً إلى حد كبير. فمثلاً في بداية الثورة تم إنشاء لجان أمنية وطبية وإدارية وغيرها بسرعة كبيرة، على نحو مماثل للجان الشعبية التي أنشأها الثوار المصريون في شباط/فبراير 2011.

السيناريو الثاني:
الحكم العسكري؟وهو سيناريو آخر محتمل، إذ أن عدداً من 'الضباط الأحرار' السابقين ـ منهم اللواء عبد الفتاح يونس، واللواء سليمان محمود، والعقيد خليفة حفتر، والرائد محمد نجم، وآخرون ـ ممن شاركوا في انقلاب 1969، هم في المجلس العسكري الحالي. وهؤلاء يحملون خليطاً من 'الشرعية التاريخية' لمشاركتهم في 'ثورة الفاتح'، و'الشرعية الحالية' لحمايتهم ثورة 17 فبراير. وهؤلاء الضباط ينتمون أيضاً لعدة قبائل كبيرة مما يضمن تمثيلاً واسعاً للقبائل الليبية. يضاف إلى ذلك أن العسكريين في ليبيا لن يرثوا وضعاً اقتصادياً صعباً ـ كما هو الحال في مصرمثلاً - مما قد يثنيهم عن تولي الحكم بشكل مباشر ابتعاداً عن تهديد شرعيتهم إن فشلوا في تحسين الوضع الاقتصادي. هذه العوامل مجتمعة قد تغري بعض العسكريين بالتشبث والحكم بشكل مباشر، خاصةً إن كان لهم الفضل في تنحي القذافي (أي أن تنتهي الأزمة عسكرياً لا سياسياً). فتحرك عسكري مباشر من داخل طرابلس ضد القذافي وأولاده قد ينهي الأزمة بشكل حاسم، وسيعود الفضل لذلك للعسكريين. وبالطبع سيكون لذلك انعكاساتٍ على الصعيد السياسي. هذا السيناريو أقل احتمالاً من السيناريو الأول. فمعاناة ليبيا من حكم العسكر لأربعة عقود قد تشكل مانعاً رئيسياً من تكرار التجربة. والتدخل الغربي ـ وخاصة الأوروبي ـ له ثمن، ومن ذلك الاستماع للغرب بانتباه عندما يتعلق الأمر بالملفات الحساسة - كالهجرة والأمن والنفط. وتجربة العقود الماضية تثبت أن الملفّين الأولين يتأثران سلباً بالحكم العسكري ـ سواء على المدى الطويل أو المتوسط.

السيناريو الثالث:
المنطقة الرمادية..سيناريو 'المنطقة الرمادية' خلاصته أن تبقى ليبيا في 'منزلةٍ بين المنزلتين'ـ لاهي ديمقراطية حرة، ولاهي ديكتاتورية مطلقة بالمعنى المعروف، وإنما تظل في فترة انتقالية مؤبدة، وهو ما يصيب الزخم المصاحب لعملية الدمقرطة في مقتل. وبتفاقم الفساد، وضعف مؤسسات الدولة، وإنعدام الأمن تزداد شعبية أسطورة 'المستبد القوي العادل' وتبدأ عملية التراجع للوراء وهو ماحدث في روسيا مثلاً في أواخر التسعينيات وأدى إلى سطوع نجم فلاديمير بوتين. وتشير دراسة لمركز كارنيجي في واشنطن أن من المائة دولة التي صنفت على أنها في 'مرحلة انتقالية' ما بين 1970 و2000 تحول عشرون منها إلى ديمقراطيات حرة (مثل تشيلي والأرجنتين وبولندا وتايوان)، وخمس منها تراجعت الى ديكتاتوريات قمعية (مثل أوزبكستان وتركمانستان وروسيا البيضاء)، بينما ظلت الأغلبية في 'المنطقة الرمادية'، أي انتخابات دورية ودستور ديمقراطي ومجتمع مدني، مع تمثيلٍ معيب ومشاركةٍ ضعيفة وانتخابات غير نزيهة وانتهاكات منهجية لحقوق الانسان وقيود على الحريات العامة. ويرى البعض أن هذا السيناريو محتمل في ليبيا لإنعدام وجود تاريخ طويل للديمقراطية وغياب مؤسسات قوية مستقلة ـ وبخاصة القضائية والتشريعية والإعلامية منها. كما يشير هؤلاء إلى ضعف مؤسسات المجتمع المدني الليبية، والتي لم تبلغ نفس المبلغ من الخبرة والنضج مقارنةً بالمؤسسات المصرية والتونسية. غير أن ليبيا لن تكون الدولة الوحيدة التي حاولت الانتقال من القمع إلى الحرية دون مؤسسات قوية وبهوياتٍ قبليةٍ وعرقيةٍ قوية. فمنغوليا وألبانيا والهند مروا بنفس التجربة في ظروف مشابهة وربما أكثر تعقيداً ونجحوا بعد ذلك في التحول لديمقراطيات.

السيناريو الرابع:
التقسيم ..أشار لذلك السيناريو كافة الأطراف المتصارعة تقريباً. فقد أعلن خالد الكعيم - نائب وزير الخارجية في نظام القذافي - إن النظام لن يحاول استعادة 'الشرق' بالقوة. ومن جهته أعلن نيك هارفي - وزير الدفاع البريطاني - أن التقسيم هو نتيجة محتملة للصراع في ليبيا. كما أشار لذلك عدة جهات معارضة للقذافي. وينظر البعض إلى ليبيا على أنها مازالت تتبع التقسيم العثماني ذو الثلاثة أقاليم: برقة (شرق) وطرابلس (غرب) وفزان (جنوب). فاذا تحررت 'برقة' من قبضة القذافي، فإن 'طرابلس' مازلت تحت سيطرته، ولم تثر عليه 'فزان' ـ أو هكذا يجادل البعض. غير أن الواقع على الأرض أكثر تعقيداً. فالحدود بين الأقاليم الثلاثة لم تكن أبداً واضحة في أية مرحلة. وقد تغير التقسيم الإداري ثمانية مرات على الأقل منذ الاستقلال في 1951، كان آخرها عام 2007 عندما قسمت ليببا إلى 22 'شعبية' (مقاطعة). الأمر الأخطر من ذلك هو أن نظام العقيد لا يسيطر على كافة أجزاء الغرب، فمصراتة قاومت ببسالة وتحررت بتكلفة باهظة، كما أن المقاومة مسيطرة على أجزاء من مقاطعة الجبل الغربي - خاصةً مدينة الزنتان، ومتواجدة بقوة في زليطن والزاوية وحتى في أطراف طرابلس . ولايُعَلَمْ ما ينوي نظام العقيد فعله في هذه المناطق إن تم التخلي عنها وتسليمها له من خلال التقسيم، وهو ما يهدد أساس تدخل قوات الناتو، وهدف القرار الأممي رقم 1973 الخاص بحماية المدنيين في ليبيا. الشرق أيضاً له تعقيداته. فكما أن السيطرة على مصراتة والزاوية والجبل الغربي في غاية الأهمية لمشروع التقسيم بالنسبة لنظام القذافي، فإن تأمين أجدابيا، والسيطرة على البريقة ورأس لانوف من قِبَل المجلس الوطني الانتقالي هو بنفس مستوى الأهمية . فأجدابيا بها مراكز التحكم بمياه الري في عدة مناطق شرقية ومنها بنغازي ـ المعقل الرئيسي للثورة. وبدون مراكز التكريرفي البريقة ورأس لانوف فإن الثروة النفطية للشرق ـ العمود الأساسي للإقتصاد هناك ـ ستكون محدودة للغاية، مما يعطي الفرصة للغرب ليكون نموذجاً يجمع بين للاستبداد والقمع والغنى بالثروة النفطية، في مقابل الحرية مع التدهور الاقتصادي في الشرق ـ وهو النموذج الذي يسعى اليه أية نظام استبدادي ليضفي عليه شيئاً من الشرعية، ولا يريده الثوار العرب لتأثيره سلباً على مشروع التحول الديمقراطي وعلى مشاريع التنمية الاقتصادية على االمدى الطويل والمتوسط. الخلاصة: ليبيا ومحورية دور الثوار العرب- السيناريوهات الاربعة المختارة -ستتأثر بقوة - سلباً أو ايجاباً ـ بالوضعين المصري والتونسي. فإن نجاح الثورتين في تحويل مصر وتونس لدولتين ديمقراطيتين سيعطي دفعاً قوياً لعملية التحول الديمقراطي في المنطقة بشكل عام، وفي ليبيا بشكل خاص. فأفضل هديةٍ يمكن أن تهديها مصر وتونس للشعب الليبي والشعوب العربية هي أن تنجح ثورتاهما، وفي ذلك ما سيساعد على ضمان عدم استمرار حكم عسكري قمعي في ليبيا ما بعد القذافي، وكذلك عدم سقوط ليبيا في 'المنطقة الرمادية' للأبد. وفي حال تدهور الموقف في ليبيا نحو حربٍ أهليةٍ أو نحو مشاريع تقسيم فعلية، فإن التدخل الدبلوماسي المصري والتونسي والعربي سيصير حتمياً، إذ أن انهيار ليبيا أو تقسيمها سيشكل خطراً ـ ليس فقط على الأمن القومي المصري والتونسي- ولكن أيضاً على اقتصادهما، ومستقبل مليون ونصف المليون من العمال والموظفين المصريين والتونسيين الذين كانوا يعملون في ليبيا.

نقلاً عن منتدى انتفاضة 17 فبراير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق