الجمعة، يوليو 08، 2011

الهوية: سَمِّنا بأسمائنا الحقيقية

الهوية: سَمِّنا بأسمائنا الحقيقية

عندما أتحدث عن الهوية مع طلابي, أحياناً ما أسألهم إن كان من الممكن أن يغَيروا أسماءهم في مقابل مليون دولار. ولو وجدتُ منهم عزوفاً, أعرض عليهم المزيد من الأموال الافتراضية. ثم أقول لهم, “وماذا لو كنتم عرضة للسجن اذا لم تغيروا اسمأكم؟ ماذا لو كنتم ستنقذون حياتكم وحيوات أحبائكم؟”
دائماً ما يوافق أحد ضاحكاً على المليون دولار على حين يطلب آخرون المزيد. لن يخاطر البعض بدخول السجن. يدركون هويتهم, ولو تم إرغامهم على تغيير أسمائهم, لا يزال بمقدورهم استعادتها. لن يغامر آخرون بالتسبب في إيذاء أقاربهم. وهناك مَن لن يبدلوا أسماءهم مهما بلَغ الثمن.
وبينما تدور هذه الحوارات, غالباً ما يتراجع من ظنوا أنهم سيحتملون أي عناء ويلقون على الأمر نظرة بعيدة المدى على حين ندم مَن حددوا ثمناً نقدياً لأسمائهم.

مبادئ الهوية: ليست مجرد اسم
إن التوتر الذي ساور هذه الحوارات لا يتعلق بالأسماء, وإنما بالهوية. ثمة ثلاثة جوانب للهوية ينبغي أن ندركها. الجانب الأول هو أن الحفاظ على هويتنا الفردية أمر غريزي. الثاني هو أن الهويات نتاج للأزمات. الثالث هو أن الهويات تتكل على الأيديولوجية أكثر من اتكالها على الحقائق.
ثمة هوية قومية يعاد تشكيلها مع الثورة الليبية في اللحظة الحالية. لقد حجب نظام القذافي طويلاً أي مظهر من مظاهر الهوية الليبية بما اختاره هو من صور ورموز وبشخصه ذاته و سيرته المزيفة. ومثل طلابي الذين قالوا إنهم يَعلمون أن باستطاعتهم دوماً استرجاع أسمائهم, استهل الشعب الليبي ثورته برفع علم الاستقلال وغناء نشيده الوطني الأصلي, كان النظام قد حظر الاثنين لمدة أربعة عقود. وفي 22 فبراير عندما صاح القذافي خلال أحد خطبه, “مَن أنتم؟” صاح الليبيون باسم بلدهم رداً عليه وحجبوا صرخاته الهستيرية مؤكدين للعالم و لأنفسهم فشل القذافي الكامل في اعادة تكونيهم طبقا لصورته او تصوره لهم.
يخبرنا واضعو النظريات الثقافية أن الهويات تتولد في لحظات الأزمة, وغالباً ما تنشأ عن مظالم أضمرتها الصدور فترات طويلة من الزمن. لقد أشعل إحساس بالأمل ثورات العالم العربي عقب عقود من الاستبداد. إذ شبَّت الثورات والشعوب تدرك عمق يأسها كما رمزت إليه تضحية بوعزيزي التونسي بنفسه. وبالاقتران بإرادة الشعوب القوية على بقائها الجماعي عند لجوء الأنظمة إلى العنف, تزايد إحساس الناس بالأمل لينقلب طوفاناً في سبيله إلى إزاحة كل الأنظمة النتنة في المنطقة.
اما بالنسبة للركيزة الأيديولوجية و العاطفية التي تُبني عليها الهوية ينبغي ان نتطرق إلى كيفية اعتماد الهويات على التاريخ من أجل ترسيخ نفسها في وعينا. لقد أصبح تصريح عمر المختار عام 1931 “نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت” شعاراً للشعب الليبي ويعتبر خيالنا موقف المختار قصة انتصار. لن تسمح لنا عملية تكوُّن الهوية بالاعتراف بأن استشهاد المختار وضعت حداً لكل المقاومة المسلحة في ليبيا ضد الطليان. وكذلك لن نعترف إلا مضطرين بأن نهاية المقاومة المسلحة أدت إلى إغلاق معسكرات الإبادة الجماعية كسلوق و العقيلة حيث عانى أجدادنا في ظروف بغيضة.
لقد حكَمت الأقدار بأن ينال شعبنا بعض الإرجاء للبلاء عند منح المختار الاستشهاد. ولكن هويتنا تعتمد على جانب واحد فقط من تلك العملية المحتومة. وفي هذه النسخة المحدودة من التاريخ – نسخة نؤكدها ونكررها – تصمد هويتنا.
ولا يقتصر الاعتماد على نسخ منتقاة من التاريخ على الليبيين. يعد العصر الذهبي للحضارة الإسلامية موضع فخر لغالبية المسلمين وأحد منابع هويتهم. نتذكر على سبيل المثال العهدين الأموي والعباسي لشعرائهما وفلاسفتهما وعلمائهما باعتبارهما عصرين حمَل فيهما المسلمون مشعل التنوير. وفي هذا السياق يقف سفاح مكة الحجاج بن يوسف الثقفي – وله أبلغ الأثر في قمع الهجوم المناوئ للدولة الأموية – خارج الإطار المُذهب لهويتنا. وكذلك تقف خارجها الحقيقة القائلة بأن “تسويق البشر – ولا سيما النساء – بوصفهم سلعاً ومواد للاستغلال الجنسي كان واقعاً يومياً” في العصر العباسي وفقاً لتأكيدات المؤرخة ليلى أحمد.
ولا تبزغ هويات الليبيين أو العرب أو المسلمين وحدها في تواريخ مختارة. سَلْ معظم الأمريكيين عن قادتهم العظماء وسوف يتحدثون عن عقول ألمعية ونضج عاطفي. ولن تقر إلا أقلية صغيرة منهم بأن العديد من مؤسسي دولتهم امتلكوا عبيداً وأشرفوا على إبادة جماعية استمرت قروناً لتقتل الملايين من سكان أمريكا الأصليين.

ثمن الهوية الخاطئة
لقد شكلنا نحن العرب والمسلمون هوياتنا في القرن الماضي وفقاً لتصورات اقتربت من الواقع غير أنها كثيراً ما حادت عنه. استعرنا مجرى تفكير شائعاً في الهند وتخيلنا أنفسنا حضارة وسطى بمقدورها تزويد الغرب المتجرد من القلب والروح بحساسية روحية توازن عقلانيته الباردة. ويواصل بعضنا نفس التخيل على الرغم أن دولنا من بين أكثر دول العالم فساداً.
كثيراً ما نُعرف أنفسنا بأننا أبطال قادرون على المآثر العظيمة بينما لا نمتلك في الحقيقة المهارات أو القوى لتحقيق ما ندعيه من بطولة. نرى أنفسنا ضحايا للصوص من الخارج بينما لم نفعل الكثير لردع اللصوص الموجودين بيننا و من اقربائنا, وكثيراً ما نجد أنفسنا نتعشى على موائدهم.
لقد عرَّفنا أنفسنا بطرق عديدة منعتنا من الاعتراف بأن مجتمعاتنا – وليس فقط حكوماتنا – ناقصة التعليم وعالة اقتصادية ومتصلبة روحياً, تضطهد بوجه عام النساء والأقليات وتتعامل بتعصب لا تفسير له مع الاختلاف.

الهوية والربيع العربي
إن الثورات العربية الحالية هي الخطوة الأولى نحو تقييم صادق لأنفسنا. تجيء احتجاجات الشباب في العالم العربي بسبب صدوع واضحة في هوياتنا القومية وفروق بين ذوات أرادوا أن يكونوها وذوات مهزومة الأرجح أن يكونوها في المستقبل.
تتعلق إذن هذه الثورات بالهوية بعمق. يرفض شباب الثورات العربية أن يتخذوا أسماء لا تنتمي إليهم. وقد نادوا أكثر ما نادوا بالحرية. يريدون أن يستمع الآخرون إلى آرائهم وأن يُعبر فنهم عن نفسه بدون موانع. يرغبون في شغل مساحات حُرموا منها بسبب السن أو الإثنية أو العرق أو الجندر.
تواجه الثورات العربية تهديداً ببتر حرية التعبير المكتسبة حديثاً والجهود المبذولة لتوسيع نطاق الفرص الاجتماعية والاقتصادية قبل إحداث أي تغييرات جادة. سوف تغدو المأساة ألا يرى شبابنا سوى بصيص من أسمائهم الحقيقية, وبعدها ينسدل ستار من الخوف وعدم الأمان لحجب بصيرتهم. ما يريده شبابنا هو أن يتطابق خيالهم مع حقيقة حيواتهم, لا مع واقع مستبد آخر ينشد بلا انقطاع أوهاماً جديدة كي تدعمه في العالم. فلنحذر من أن نُخيب أملنا مرة أخرى أو نقف في طريق مستقبلنا.

بقلم: خالد المطاوع, أستاذ مشارك في الادب الانجليزي بجامعة ميشيجان بمدينة آن أربر.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق