عن المدونة

قال تعالى في كتابه الكريم:

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل-125


وقال الرسول الكريم:
"… لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعمسهل بن سعد الساعدي المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2406، خلاصة الدرجة: صحيح..

عندما أتيحت الفرصة للرسول الكريم حتى يطبق الأخشبين على المشركين، تسامت روحه الطاهرة عن نزعة القصاص، فسأل الهداية لقومه، لأنهم لا يعلمون الحق من الباطل، محددا لأمته من بعده منهجاً قائماً على العفو والإعراض عن الجاهلين والتسامح والحلم عند المقدرة.

كان هذا نهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والذي آمن به الشيخ الشهيد محمد المدني حرصاً منه على كل نفس، فكان لا ينفك الهداية والسلامة للمغرر بهم، حتى وافته الشهادة وهو على هذا الحال.

وهذا هو النهج الذي يؤمن به القائمون على المدونة، فهو طاعة لله، وطاعة لرسوله، وسيرا على أثر الشيخ الشهيد، نسأل الله أن يجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى جوار الرسول الكريم، وأن يهدي إخواننا في ربوع وطننا الحبيب ليبيا.

فمن هو هذا الشهيد البطل، رحمه الله؟




هو محمد على المدني  من أبناء الزنتان  المجاهدة والجبل الغربي الأشم .. أمضى فترة طويلة مبكرة من عمره في معسكرات قوات الصاعقة الليبية ببنغازي عايش فيها ميادين القتال وعرفها وعرفته وتعلق بها و فيها تعلم فنون الاشتباك والانسحاب والهجوم والتكتيك العسكري وأكثر ما تعلم فيها هو حب الوطن والصبر والصلابة التي عركته فأصبح صلبا لا يلين وشجاعا لا يتراجع وأهلته لأن يعرف أن أشرف ميدان لخدمة الوطن هو في الجبهات و الثغور والميادين حيث تفيض أرواح الرجال وتنساب من الأجساد منتقلة إلى خالقها مخلفة وراءها مباهج الحياة الدنيا وزينتها من مال وبنون .
أنتقل بعدها  للعمل والإقامة لمدة قصيرة بمدينة طرابلس ثم أنتقل بعدها إلى الزنتان مسقط رأسه وأتجه إلى المسجد لحفظ القرآن الكريم والإقبال على تعلم العلوم الدينية وعمل إماماً لبعض مساجدها ، عرفه الناس بالجدية في حياته فهو رجل قليل الكلام ، كما عرفوه بالحكمة وعمل الخير والسعي في الصلح بين الناس وفض المنازعات والخصومات فكان رجلا مسموع الكلمة مؤتمن الجانب يلاقي قبولا بين الناس .
وكان وطنيا  صادقا يرى بأن ليبيا جديرة  بأن ترى مستقبلا أفضل مقارنة بالتضحيات  التي بذلها الأجداد والبؤس والشقاء  والألم الذي صاحب رحلة الجهاد تلك كيف  لا وهو يسمع من شيوخ وعجائز الزنتان  تلك الرحلة التاريخية الخالدة من الجهاد التي خاضوها في الشط والجبل والقبلة .
وجاءت ثورة فبراير المجيدة وكانت الشرارة  من بنغازي العزيزة على قلوب كل الليبيين يوم 15 فبراير فأقتبس الزنتان منها قبساً  يوم 16 فبراير مؤكدين أن الليبيين وحدة واحدة  وأن ميدان خدمة الوطن ونصرة  الحق ميدان يجب أن يتنافس فيه المتنافسون  من الشرفاء والأحرار فالشرف يناله  المرء بالفعل العظيم والتضحية البالغة . وانطلقت الزنتان على خلاف بعض المدن الثائرة الأخرى شيباً وشباباً رجالاً ونساءً دون تخاذل وبرزت للفضائيات تلك الصور الرائعة التي سيسجلها التاريخ الليبي بمداد من ذهب لأنها صنعت التغيير الذي طالما حلم به المفكرون والمنظرون والحالمون .
وأنطلق الشيخ  محمد المدني إلى المنتفضين موجها  ومرشدا ومنبها إلى سلمية الثورة وأن  تحافظ على الممتلكات والأرواح وأن تعطى المثل الحسن على طليعة هذه الثورة . ولكن أتت الرياح بما لم تشتهي السفن و توجهت دبابات النظام وصواريخه وقنابله ضد صدور الثوار العزل المسالمين فما كان من الثوار إلا أن عرفوا بأن العنف الثوري أصبح فرضا مقضيا فتوجهوا إلى المعسكرات ومخازن الأسلحة وسقط منهم الشهداء في تلك الأحداث والجرحى والمصابين ولكنهم امتشقوا أخيرا السلاح الذي سيحمي ثورتهم ويسير بها إلى نهايتها المبتغاة .
ففرض الموضوع  على الشيخ محمد المدني أن يرتدى  ملابس العسكر وأن يعود إلى أيام الميادين والجبهات فنظم الصفوف وقسم الثوار إلى مجموعات وأقام الكمائن  ووحدات الاستطلاع ورسم خطط المواجهة وبعث إلى المناطق القريبة بشان الانضمام فتحركت مع الثورة الرجبان وجادو ويفرن والقلعة وككلة ونالوت وبعض من الرياينة وغيرهم .
محمد المدني اتّبع أسلوبا في المواجهة جدير بأن يرقى به إلى رمز وطني نبيل يحتذى به فوجه وبصرامة منذ البداية إلى عدم البدء بالاشتباك مع الكتائب حتى يتم التفاوض معهم ونصحهم وتوضيح موقف الثوار لهم وأننا وهم أخوة وأبناء دين واحد وجلدة واحدة فلا يجوز أن تهدر الدماء في معارك غير واجبة ، وكان دائم القول للثوار بأننا نقول في الكتائب ما قاله سيدنا على فيمن خرج عليه بأنهم أخوة لنا جاروا علينا وظلمونا ، وفي أكثر من موقعة توجه هو شخصيا أو بعث لقادة تلك الكتائب من ينصحهم واستخدم الهاتف ومكبر الصوت كذلك  في بعض الحالات لمخاطبة الكتائب ولم يستجب قادة الكتائب في معظم الحالات لذلك النداء الأخوي والصادق .
محمد المدني ورفاقه قاموا بالتعامل مع الأسرى والجرحى  معاملة الرسول الأعظم وصحبه الكرام فلم يهينوا اسيرا ولم يمثلوا بجثة قتيل كما قاموا بإسعاف الجرحى ونقلهم بسرعة إلى المستشفيات وتقاسموا معهم الزاد والماء ومكنّوهم من الاتصال الهاتفي بذويهم بل أن كثير من ذويهم تمكنوا من زيارتهم والاطمئنان عليهم ، ورأينا جميعا تلك الصورة الرائعة لحسن التعامل عبر الفضائيات فرأينا الأسرى يلعبون كرة القدم مع الثوار ورأينا أحد المرتزقة من المسلمين الأفارقة في الزنتان وهو يشير إلى الثوار قائلا هولاء هم احباب الله ورسوله .
محمد المدني جبل راسخ من الأخلاق والحكمة والرجولة ... تفوه ذات مرة شاب صغير من الثوار بكلمات غير لائقة ضد القذافي فنهره محمد المدني بشدة قائلا له والله يا بني ما أخرجنا من بيوتنا كرهنا للقذافي في شخصه ولكننا ثرنا ضد نظام كامل من الفساد ، فأخرجنا من بيوتنا الظلم والظلم ظلمات وأخرجنا الفقر والجوع والجوع كافر ، وأخرجنا الربا الذي ساد وهو حرب لله ورسوله ، وأخرجتنا الرشوة والراشي والمرتشي في النار ، وأخرجنا التهميش والاستبعاد وأن يتولى أمورنا شرارنا وليس خيارنا ... والله يا بني أننا نحمل قضية بين ضلوعنا لا تسعها الأرض بما رحبت قضية غرد وطار لها الطير في الفضاء الفسيح وسارت لها الأسماك وهي تجوب البحار والمحيطات وطار لها النحل والفراش وهو يجوب الغابات والمروج .. إنها الحرية الحرية الحرية  ونحن الأحرار أبناء الأحرار فلا تختصر قضيتنا في شخص وأشخاص .
محمد المدني كان دائم التفقد لجبهات الثوار فكان لا يهنأ له بال حتى يطمئن على أهل القلعة ويفرن وككلة والرجبان ونالوت وجادو ومن معهم وكان دائم الانشغال بهم والسؤال عنهم . كما كان حريصا على تفقد أهل الزاوية وصبراتة وضرورة إمدادهم بما يتوافر من سلاح أو ذخيرة .
محمد المدني استشهد وهو يفاوض الكتائب قبل  الاشتباك فكان واقفا يتحدث عبر  مكبر الصوت معهم فأصابته رصاصة قناّص في رجله فربطها وقام ثانية فأصابته رصاصة أخرى ومزقت بطنه فنقله الثوار إلى المستشفى وفي الطريق كان يوصيهم رغم ألم الجراح بأن لا يفرغوا أيديهم من أيادي أخوتهم وان يفاوضوهم دائما عسى الله أن يهديهم إلى جادة الصواب .

محمد المدني ودعته الزنتان في يوم حزين تعالت  فيه زغاريد النساء وتكبيرات الرجال وصيحاتهم وانطلقت أصوات البنادق بالرصاص مودعة شهيد الثورة وأسد الجبل الغربي الأشم .

محمد المدني ودعته الرجبان ويفرن والقلعة وككلة والرياينة وجادو وكاباو ونالوت والحوامد وكل الجبل الغربي الأشم عرين الأسود ومصنع الرجال سار لاحقا بمن سبقوه من الشهداء وقادة الجهاد العظام الباروني وبن عسكر وافكيني والبوسيفي وسالم بن عبد النبي .

محمد المدني ودعته ليبيا فيمن ودعت من أبناءها الشرفاء الذين هم وحدهم من يجب أن تتزين شوارعها وساحاتها وميادينها باسماءهم  فهولاء هم القدوة وهولاء هم الرموز .
قصيدة  في رثاء الشهداء وعلى رأسهم الشيخ محمد المدني

سألت الرجال اليوم ماذا دهاهم                          و ما سر ذاك الدمع في مقلاهم
لم الحزن  يبدو ساكنا في عيونهم                        ولم التجلي غاب عن محياهم
ولم الشباب هتافهم وصياحهم                            ولم الرصاص مدويا في سماهم
ولم ارى الاطفال اخفو لعبهم                          واسمع من الأطفال صوت بكاهم
ولما أري تلك النساء قوافل                            وأرى الشيوخ الحزن قد أغشاهم
أين البشاشة في عيون مدينتي                         وأين الرفاق اليوم لست أراهم
فردوا عليا حزينة اصواتهم                            إن الرفاق اليوم  فارقناهم
هذي القبور وهذه اطلالهم                              نزلا كريما طيبا مثواهم
جزعنا لفقد المدني محمد                           صوت النفوس الثائرة وصداهم
وعزعلى  الزنتان فقد رجالها                         جموعا الى مجد العلى تتزاحم
فعز على الشعر حتى كادني                     وعجزت بيوت الشعر أن ترثاهم

عن المنارة للإعلام الرئيسية، سطور في يوم وداعه